تُعَدّ أم كلثوم واحدةً من أبرز الرموز الفنية في العالم العربي، ولُقِّبت بـ"كوكب الشرق" تقديرًا لصوتها الاستثنائي وأدائها الأخّاذ. وُلدت في مطلع القرن العشرين في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية في مصر، وسط بيئةٍ ريفيةٍ بسيطة أثّرت على مسيرتها الفنية اللاحقة، إذ اكتسبت من طبيعة القرية الدفء والبساطة والعُمق الروحي. استطاعت أم كلثوم أن تحفر اسمها بحروفٍ من ذهب في ذاكرة الفن العربي، ليس فقط بأغانيها العاطفية والدينية والوطنية، بل أيضًا بمدرستها الفنية الفريدة التي ما زالت حيّةً حتى يومنا هذا. في هذه المقالة، سنخوض في تفاصيل رحلتها الممتدة من بداياتها المتواضعة إلى ذروة الشهرة والمجد، ونستكشف أهم المحطّات الفنية التي جعلتها تتربع على عرش الغناء العربي.
وُلِدَت أم كلثوم – والاسم الحقيقي لها هو فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي – في حوالي عام 1904 (لا يزال التاريخ الدقيق لميلادها موضع جدل بين المؤرخين). كان والدها يعمل مؤذنًا في القرية، ورغم بساطة العائلة، لفت انتباهه جمال صوت ابنته حين كانت تتلو آيات القرآن الكريم وتُنشد التواشيح الدينية. ومع تقدّمها في العمر قليلاً، أصبحت تُحيي الموالد والأفراح الشعبية في قريتها والقرى المجاورة.
جاءت الفرصة الحقيقية لأم كلثوم حين انتقلت إلى القاهرة في بدايات العشرينيات من القرن العشرين. ففي العاصمة، واجهت تحديات جديدة وبيئة مغايرة تمامًا عمّا اعتادت عليه في الريف، لكنها سرعان ما أثبتت قدرتها الفائقة على التأقلم والنجاح. التقت هناك بنخبةٍ من شعراء وأدباء وملحّني ذلك الزمن، ممن لعبوا دورًا بارزًا في تطوير موهبتها وصقلها فنيًّا، لتنطلق بقوة في عالم الغناء الاحترافي.
مع حلول الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بدأت أم كلثوم تفرض اسمها بقوة على الساحة الفنية. تميّزت بشخصيةٍ رصينة وبأسلوبٍ غنائي فريد، بحيث طوّرت شكل الأغنية العربية التقليدية، وجعلتها أكثر عمقًا وتطريبًا. تعاونت مع مجموعةٍ من ألمع الملحنين، من بينهم رياض السنباطي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب. كما نسجت علاقاتٍ وطيدة مع شعراءٍ كبار، أبرزهم أحمد رامي وبيرم التونسي وأحمد شوقي، وهؤلاء ساهموا في تشكيل الهوية الفنية لـ"كوكب الشرق".
ولعلّ ما ساعد على انتشار أم كلثوم وتثبيت مكانتها أنّ حفلاتها الشهرية كانت تُذاع على الهواء مباشرةً عبر الإذاعة المصرية؛ الأمر الذي جعل يوم الخميس الأوّل من كل شهر موعدًا ينتظره الملايين بفارغ الصبر، يستمعون فيه إلى صوتها العذب وهي تؤدي أغنياتٍ جديدةً وملحمية. وقد تحوّل هذا اليوم إلى ظاهرة اجتماعية وثقافية في مختلف أنحاء الوطن العربي، حتّى إنّ شوارع المدن كانت تخلو نسبيًّا في وقت الحفلة، إذ ينشغل الجميع بالاستماع إليها.
تميّزت أم كلثوم بقدرتها الهائلة على أداء مختلف الأنواع الموسيقية والغنائية. فقدّمت القصائد باللغة العربية الفصحى بصوتٍ يفيض شجنًا ورقيًّا، وجعلت منها مادةً مُحبّبة للجمهور العربي المثقّف والعادي على حدّ سواء. ويُعدّ الملحن رياض السنباطي شريكًا أساسيًّا في تحقيق هذا التوجّه الفني، إذ لحّن لها مجموعةً من الروائع التي لا يزال الناس يستمتعون بها حتى الآن، مثل "سلوا كؤوس الطلى" و"ولد الهدى".
لم تقتصر أغانيها على القصائد؛ بل أدّت أيضًا طيفًا واسعًا من الأغاني العاطفية التي وُصِفَت بأنها مدرسة في الرومانسية والمشاعر الفيّاضة، ومنها أغنيات خلّدت في ذاكرة الشعوب العربية مثل "أنت عمري" و"الأطلال" و"فكروني". وفي كل عمل كانت تضع بصمتها المتفرّدة، إذ امتاز أداؤها بالتطريب والارتجال الآسر الذي يسمح لها بإعادة تكرار الجمل اللحنية بطرقٍ وأساليب مختلفة، تضفي على الأغنية مزيدًا من العمق والإحساس.
شكّل تعاون أم كلثوم مع كبار الملحنين والشعراء إحدى الركائز الأساسية لنجاحها. فكلّ واحد منهم أضاف لونًا موسيقيًّا وقالبًا لحنيًّا جديدًا لأعمالها، ما جعل مسيرتها غنيّة ومتنوّعة. فعلى سبيل المثال، أطلق التعاون مع محمد عبد الوهاب مرحلة فنية متجددة في حياتها، حيث ظهرت أعمالٌ توازن بين الأصالة والتجديد، مثل أغنية "أنت عمري" التي اعتبرت علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، وأيضًا في علاقتهما الفنية بعدما كانت تتسم بالندية والتنافس الشريف.
وعلى صعيدٍ آخر، خاضت أم كلثوم تجربة السينما عبر عدّة أفلام، مثل: وداد (1936)، ونشيد الأمل (1937)، ودنانير (1940). ورغم أنّ رصيدها السينمائي ليس كبيرًا، فإنّه يُعدُّ مهمًّا في تاريخ الفن العربي، وقدّم لجمهورها فرصةً لمشاهدتها بشكلٍ مختلف كنجمة شباك وممثلةٍ سينمائيةٍ أيضاً.
لم تقتصر مكانة أم كلثوم على الجانب الفني البحت؛ بل عُرِفَ عنها أيضًا دورها الوطني والاجتماعي. في فتراتٍ مفصلية من تاريخ مصر والعالم العربي، كانت تقف سندًا للمجتمع، وتُخصِّص إيرادات بعض حفلاتها لصالح المجهود الحربي أو المشروعات التنموية. ومن أشهر المواقف في هذا السياق ما قامت به أثناء وبعد حرب 1967، إذ ساهمت تبرّعاتها الفنية في دعم جيش بلدها وأظهرت التزامها الوطني الكبير.
على المستوى الإنساني، شاركت أم كلثوم في العديد من الأنشطة والمبادرات الخيرية، وسعت إلى مدّ جسور التواصل بين الفنانين والمجتمع. كذلك حافظت على إرث التُراث الموسيقي القديم، وقدّمت أنماطًا جديدة من الألحان التي ساهمت في تطوير الذائقة الموسيقية العربية.
برغم أنّ أم كلثوم لم تغنِّ بلغاتٍ أجنبية، إلا أنّ شهرتها عبرت حدود المنطقة العربية ووصلت إلى العالمية. ففي دولٍ غربية عديدة، تم الاحتفاء بفنّها، وأقيمت حفلاتٌ تكريميةٌ تستعيد أغانيها الخالدة. كما ألهمت فنانين عالميين وأكاديميين موسيقيين تعمّقوا في دراسة أسلوبها وأدائها المبهر، خاصةً فيما يتعلّق بفنون الارتجال والنمط المقامي في الموسيقى الشرقية.
ويستدلّ على هذه المكانة العالمية بتصنيفها ضمن أهم الفنانين المؤثّرين في القرن العشرين، وبتوافد سيّاح أجانب إلى متحف أم كلثوم في القاهرة، للتعرّف على مقتنياتها الشخصية وأزياء حفلاتها وبعض تسجيلاتها النادرة. وتظلّ سيرة أم كلثوم مصدر إلهام للفنانات العربيات والعالميات، اللواتي ما زلن يقمن بمحاولاتٍ لاستلهام جوانب من أسلوبها وأدائها المميز.
على الرغم من مرور قرابة خمسة عقود على وفاتها في عام 1975، فإنّ صوت أم كلثوم ما زال حاضرًا في الإذاعات ومحطّات التلفزة، وما زال الجمهور يجد في أغانيها راحةً نفسيةً وجماليةً لا تتأثّر بمرور الزمن. وفي شهر رمضان والأعياد والمناسبات الوطنية، نسمع أعمالها تتجدد في الذاكرة الجمعية، لتؤكّد لنا أنّ فنّها جزءٌ أصيل من ثقافتنا العربية.
وما يزيد من قيمة إرثها أنّه ليس حكرًا على جيلٍ محدد، إذ يتوارث الشباب حبّ أغنياتها عن آبائهم وأجدادهم. وفي عالمٍ موسيقي تتسارع فيه التغيّرات وتتجدّد فيه الأساليب، تظل أم كلثوم مدرسةً راسخةً لكلّ من ينشد التميّز والإبداع.
تمثّل قصة نجاح أم كلثوم درسًا ملهمًا في الإصرار والإيمان بالموهبة، حيث بدأت رحلتها من قريةٍ صغيرةٍ في الريف المصري لتغدو واحدة من أيقونات الموسيقى العالمية. إن كنت ترغب في التعمّق أكثر في عالمها الشيق، ندعوك إلى الاستماع لحفلاتها المسجّلة ومشاهدة أفلامها القديمة كي تكتشف عظمة هذا الصوت الذي أسر قلوب الجماهير لعقود طويلة. كما يمكنك زيارة متحف أم كلثوم في القاهرة، أو متابعة البرامج الوثائقية على المنصات الرقمية للتعرّف على كنوزٍ فنيةٍ أخرى تُعرض لأول مرة.