يُعَدُّ سيد درويش (1892-1923) واحدًا من أهم وأبرز رواد الموسيقى العربية في القرن العشرين، حتى أنه لُقِّب بـ"أبو الموسيقى العربية الحديثة". ظهر في وقت كانت فيه الموسيقى العربية تقليدية ومقيدة بقوالب ثابتة، فنجح في أن يُحدث نقلة نوعية في شكل الأغنية العربية، وأسَّس بفنه مدرسة متكاملة تمزج بين الألحان التراثية والشعبية والإيقاعات العالمية. في هذه المقالة، سنلقي نظرة شاملة على حياته ونشأته، ونستعرض أهم المحطات في مشواره الفني وتأثيره الدائم على الموسيقى العربية والمسرح الغنائي. الكلمات المفتاحية التي سنعتمدها هي: سيد درويش، الموسيقى العربية الحديثة، الأغنية العربية، تاريخ الموسيقى، والثقافة المصرية.
وُلد سيد درويش البحر في حي كوم الدكة بمحافظة الإسكندرية في العام 1892، في بيئة شعبية متواضعة. وقد تفتَّحت موهبته الموسيقية في سن مبكرة، عندما التحق بالمدرسة الابتدائية الدينية وتعرَّف على أسس تجويد القرآن الكريم. ساعده ذلك في تعلم مخارج الحروف بدقة، واكتساب إحساس عالٍ بالنغمات والمقامات. هذه الميزة هي ما مهدت له الطريق لاحقًا ليبدع في استخدام المقامات الشرقية، مثل: البياتي، والراست، والسيكاه، وغيرها.
وعلى الرغم من أصوله المتواضعة، امتلك سيد درويش طموحًا كبيرًا، فكان يقضي أوقاته الفارغة في تعلُّم العزف على العود، مستفيدًا من مجالس الإنشاد والذكر والمناسبات الدينية التي كانت تُقام في الأحياء الشعبية بالإسكندرية. وقد لفت الأنظار بصوته القوي وحضوره الآسر، فبدأ يشارك في إحياء الأفراح والمناسبات الاجتماعية، حيث تميّز بالقدرة على تطويع الأغاني التقليدية الشعبية لتلائم ذائقة الجمهور.
لم يكتفِ سيد درويش بنجاحه في الإسكندرية، إذ شعر بالحاجة للانتقال إلى القاهرة في أوائل القرن العشرين، بحثًا عن بيئة فنية أوسع. في تلك الفترة، كانت القاهرة تشهد ازدهارًا في النشاط المسرحي والغنائي؛ إذ أُنشئت مسارح عديدة تهتم بالعرض الغنائي والمسرح الاستعراضي. هناك، التقى سيد درويش بمجموعة من رواد الفن والموسيقى والمسرح مثل نجيب الريحاني وعلي الكسار، فتوطدت علاقاته بهم، وبدأت تظهر بوادر تعاون فني أثمر فيما بعد عن أعمالٍ غنائية ومسرحية مميزة.
تعرّفه على هذه النخبة من الفنانين والمسرحيين ساعده في صقل موهبته، والتعرف على احتياجات السوق الفنية، وكذلك كيفية التواصل مع جمهور الطبقة المتوسطة والعليا في العاصمة. وقد أثبت سيد درويش قدرته على تأليف ألحان تُلائم النصوص المسرحية، فكانت تلك فرصة ذهبية لكي يطوّر أسلوبه الموسيقي ويستعين بتقنيات وأساليب غير مألوفة في الموسيقى العربية آنذاك.
يُنسَب الفضل لسيد درويش في وضع حجر الأساس للمسرح الغنائي العربي المعاصر، فقد قدم أعمالًا مسرحية عدة، اتسمت بتنوع ألحانها وجرأتها على كسر القوالب التقليدية. ومن أبرز المسرحيات التي شارك فيها بالتلحين ما عُرِض على مسرح نجيب الريحاني ومسرح علي الكسار. في هذه الأعمال، استخدم سيد درويش خليطًا من الموسيقى الشرقية الشعبية والإيقاعات الإفرنجية، ما أعطى المسرح الغنائي طابعًا حداثيًا قريبًا من نبض الشارع، وفي الوقت نفسه يراعي القيم والمقامات الشرقية الأصيلة.
لم تقتصر ألحان سيد درويش على المسرحيات الكوميدية أو الاستعراضية فقط، بل قدم أيضًا ألحانًا تتناول قضايا اجتماعية وسياسية، وكشف عن قدرته على التعبير الفني المتنوع. وكان لهذا التنوع أثرٌ إيجابي في انتشار أعماله على نطاق أوسع بين جميع شرائح الجمهور.
من أكثر الجوانب التي اتسم بها فن سيد درويش هي قدرته على التعبير عن الهم الوطني والاجتماعي بأسلوب فني بديع. ولعل أشهر مثال على ذلك نشيد "بلادي بلادي" الذي صار فيما بعد النشيد الوطني لجمهورية مصر العربية. وضع سيد درويش اللحن ليعبر عن أحلام الوطن في الحرية والاستقلال، فشاع وانتشر بين الجماهير وأصبح رمزًا للهوية المصرية.
كما قدّم العديد من الأغاني التي تعكس واقع المصريين الاجتماعي؛ فتناول أحوال الطبقة الكادحة والحرفيين والفلاحين. نذكر على سبيل المثال أغنية "الحلوة دي قامت تعجن" التي تحدثت عن دور المرأة العاملة في المجتمع، وأغنية "أنا هويت وانتهيت" التي مزج فيها جمال اللحن بعاطفة حب بسيطة وصادقة. هذه الأغاني وغيرها أثبتت مقدرة سيد درويش على الاقتراب من قلوب الناس وتفاصيل حياتهم اليومية.
يُعتَبر سيد درويش ثورةً موسيقيةً متكاملة في حدِّ ذاته، إذ أدخل على الموسيقى العربية عناصر حداثية لم تكن مألوفة آنذاك. منها على سبيل المثال:
التخت الشرقي المُحَدَّث: أدخل تعديلات على التخت التقليدي بإضافة بعض الآلات الغربية أو استخدام التوزيع الموسيقي بأسلوب جديد، ما أضفى أبعادًا صوتية أوسع على الأغنية العربية.
تنويع الإيقاعات: كانت الموسيقى العربية تعتمد على إيقاعات محدودة، إلا أن سيد درويش دمج إيقاعات مختلفة ومنوعة، كالتركي والهندي والأوروبي، مما أكسب ألحانه حيوية.
التعبير الحقيقي عن البيئة: اعتمد في بعض ألحانه على مفردات من الحياة اليومية والمهن الشعبية، ليجعل أغانيه مرآة للمجتمع وطبيعة الحياة في مصر.
توفي سيد درويش عام 1923 عن عمرٍ لم يتجاوز 31 عامًا، لكنها كانت سنوات حافلة بالعطاء والإنجاز. وعلى الرغم من رحيله المبكر، ترك بصمة موسيقية خالدة أثَّرت في عددٍ كبيرٍ من الملحنين والفنانين الذين أتوا بعده. ويُمكننا رؤية أثره في تجربة محمد عبد الوهاب والموجي والسنباطي وغيرهم من الأعلام الذين تتلمذوا على مدرسته أو تأثروا بها.
بالإضافة إلى ذلك، حافظت أجيال متتالية من المطربين والموسيقيين على روح أعمال سيد درويش، من خلال إعادة إحياء وتوزيع أغانيه بما يلائم العصر الحديث. بل إن كثيرًا من الشباب ما زالوا يستلهمون من ألحانه وأسلوبه الابتكاري في الدمج بين الأصالة والمعاصرة.