يُعَدُّ الموسيقار والمطرب المصري محمد عبد الوهاب واحدًا من أبرز الأسماء في تاريخ الموسيقى العربية. شكّل هذا الفنان استثناءً في عصره، حيث جمع بين قدراته الصوتية الفريدة وموهبته الخلّاقة في التلحين والتأليف الموسيقي. وقد كان لتجديداته دور محوري في الانتقال بالأغنية الشرقية من قالبها التقليدي المغلق إلى آفاق أكثر رحابة تستوعب الآلات الغربية والإيقاعات الحديثة. في هذه المقالة، سنتناول سيرته منذ النشأة حتى آخر محطّات حياته، ونقف على أهم إنجازاته التي لا تزال حاضرة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، مسلّطين الضوء على بصمته التي صنعت مجد الموسيقى العربية في القرن العشرين.
وُلِدَ محمد عبد الوهاب في القاهرة عام 1902 (على الأرجح، فهناك روايات تشير إلى عام 1907)، وعاش في بيئة بسيطة اتسمت بحبّ الفن والطرب. اكتُشفت ميوله الموسيقية مبكرًا، إذ بدأ يردّد الأناشيد والأغاني في المناسبات العائلية منذ طفولته. وقد حرصت أسرته على تعليمه أصول الغناء والإنشاد الديني، الأمر الذي كان له أثر واضح في صقل خامته الصوتية المميزة.
عندما بلغ سنّ المراهقة، التحق بفرقة سيد درويش لفترة وجيزة، ما أتاح له فرصة ثمينة للاحتكاك بواحد من أهم أعلام التجديد الموسيقي في مصر. وقد ساعده هذا الانضمام المبكر على تعزيز ثقافته الموسيقية والاطلاع على المدارس الجديدة في التلحين، حيث كان سيد درويش يمزج ببراعة بين الفلكلور الشعبي المصري والموسيقى الحديثة التي كانت تدخل مصر آنذاك.
لم يكن طريق محمد عبد الوهاب في عالَم الفن مفروشًا بالورود؛ فقد عانى في البداية من رفض بعض المحيطين به لفكرة دخوله مجال الغناء، لا سيّما وأنه كان لا يزال صغيرًا. إلا أن إصراره وشغفه بالموسيقى دفعاه إلى التنقل بين المسارح الصغيرة والمقاهي التي تُقدّم عروضًا فنية محلية. وخلال هذه المرحلة، تبلورت ملامح شخصيته الموسيقية وصقل مهارته في العزف على العود.
مع انطلاقة مسيرته الفعلية، بدأ محمد عبد الوهاب يسجّل الأسطوانات لأغانٍ خاصة به، وحققت هذه الأسطوانات رواجًا مقبولًا في سوق الفن آنذاك. وأخذ نجمه يسطع يومًا بعد يوم بفضل الترويج الواسع الذي كانت تحظى به التسجيلات في الراديو والصحافة، بجانب دعم كبار الملحنين والشعراء الذين آمنوا بموهبته الواعدة.
يُنظر إلى محمد عبد الوهاب باعتباره رائدًا من روّاد التجديد في الموسيقى الشرقية، وذلك لقدرته الفائقة على المزج بين أصالة المقامات العربية وأنماط الإيقاع الغربية الحديثة. ففي الوقت الذي كانت فيه الأغنية العربية تعتمد بشكل شبه كامل على آلات تقليدية كالعود والناي والقانون، جاء عبد الوهاب بإدخال آلتي الكمان والجيتار، بل وصل الأمر إلى محاولة دمج بعض الآلات النحاسية في بعض أعماله.
لم تكن هذه المغامرة الموسيقية سهلة، إذ واجهت معارضة من المحافظين الذين رأوا في هذه التغييرات نوعًا من “التغريب”. ومع ذلك، فبفضل ما قدّمه من ألحان عذبة وساحرة، نجح عبد الوهاب في كسب قلوب الجمهور وجعلهم أكثر انفتاحًا على هذه الأنماط الجديدة. وأضحت ألحانه تُعبِّر عن روح شرقية أصيلة، وفي الوقت نفسه تحمل طابعًا عالميًا يجذب المستمعين خارج حدود الوطن العربي.
تميّز مشوار محمد عبد الوهاب الفني بتعاونات أسطورية مع أسماء كبيرة في عالم الغناء العربي، وفي مقدمتها كوكب الشرق أم كلثوم. حين جمعتهما أغنية “أنت عمري” عام 1964، كانت النتيجة عملًا فنيًا فريدًا يُعَدّ محطة تحول في تاريخ الموسيقى العربية. فقد دمجت هذه الأغنية قدرات عبد الوهاب في التلحين العصري مع أداء أم كلثوم المتفرّد، ما أدى إلى إنتاج عمل يحمل توقيعًا فنيًا راقيًا ومؤثرًا. وتكرّرت التعاونات بينهما فيما بعد، لتُسفِر عن مجموعة من الروائع التي شكّلت جزءًا لا يتجزأ من التراث الموسيقي العربي.
من جهة أخرى، تعاون عبد الوهاب مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في عدد كبير من الأعمال التي رسّخت مكانتهما في صدارة الغناء العربي. جاء من أبرز هذه الأعمال “أهواك”، “نبتدي منين الحكاية”، و“حياتي كلها لله” (أغاني دينية)، وغيرها من الأغنيات التي تمزج بين الطابع الرومانسي والروح المشرقية المفعمة بالأحاسيس. فضلاً عن ذلك، قدّم عبد الوهاب ألحانًا خالدة لفنانات مثل ليلى مراد وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة، ليبقى بذلك أحد الملحنين الأكثر إنتاجًا وتأثيرًا في العصر الذهبي للأغنية العربية.
لم تقتصر إنجازات محمد عبد الوهاب على عالم الأغنية فحسب، بل امتدت أيضًا إلى السينما والمسرح. شارك في بطولة العديد من الأفلام الغنائية التي لاقت رواجًا كبيرًا في العقود الأولى من القرن العشرين، مثل فيلم “الوردة البيضاء” (1933) و”يحيا الحب” (1938). وقد لعبت هذه الأعمال دورًا مهمًا في نشر شهرة عبد الوهاب وتعزيز مكانته الجماهيرية، حيث تعرّف الجمهور على براعته في الغناء والأداء التمثيلي على حدّ سواء.
تميّزت أفلامه بتكامل العناصر الفنية، من قصة وسيناريو إلى موسيقى وألحان. فقد كانت الأغاني جزءًا محوريًا في بناء حبكة الفيلم، واستخدمها المخرجون كوسيلة للتعبير عن مشاعر الشخصيات وتطوير الأحداث. وبفضل هذا التكامل الفني، باتت أعماله السينمائية إرثًا قيّمًا في السينما المصرية والعربية، تُستعاد عند الحديث عن مرحلة التأسيس للأفلام الموسيقية.
اليوم، وبعد عقود من رحيله عام 1991، لا يزال محمد عبد الوهاب حاضرًا في وجدان الأجيال العربية. أغانيه تُذاع باستمرار في الإذاعات والقنوات التلفزيونية، وتبقى مصدر إلهام للملحنين والمطربين الجدد. وقد حاز على العديد من الجوائز والأوسمة الرسمية والفنية تكريمًا لعطائه الكبير، كما أُطلِقَ اسمه على بعض المؤسسات والشوارع تخليدًا لذكراه.
الأهم من كل ذلك، أن الإرث الذي خلفه لا يُقاس بعدد الأغاني أو الأفلام فحسب، بل يُقاس بالأثر العميق الذي تركه في وجدان كل من استمع إلى موسيقاه. لقد أسهمت أعماله في توسيع آفاق الموسيقى العربية، وجعلتها أكثر استعدادًا لاستقبال التغيرات والتأثيرات العالمية، دون أن تفقد هويتها أو أصالتها.