يُعَدّ بليغ حمدي من أشهر الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية، إذ جمع بين الأصالة والتجديد، ليمنح الأغنية العربية بعداً جديداً ومميزاً. برزت موهبته في وقتٍ كانت فيه الساحة الغنائية العربية تزخر بأصوات عملاقة أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وغيرهم، فنجح في ترك بصمته الخاصة من خلال ألحانه المبتكرة التي جمعت النغم الشرقي الأصيل بلمسات حداثية تتماشى مع روح العصر. في هذه المقالة، سنلقي الضوء على حياة بليغ حمدي ونشأته الموسيقية، وأبرز المحطات في مسيرته الفنية، وتأثيره العميق على فن الغناء العربي.
وُلِد بليغ حمدي في 7 أكتوبر 1931 في القاهرة، ونشأ في بيئة موسيقية شجّعته على حب الفن من سن مبكرة. تعلّم العزف على العود، وأظهر موهبة استثنائية في تأليف الألحان وهو لا يزال في مرحلة الطفولة. التحق بمعهد الموسيقى العربية، وهناك صقلت مهاراته الفنية والتلحينية، لتضعه على طريق الاحتراف الموسيقي. كانت بداياته مع بعض الأغنيات الخفيفة، لكنه سرعان ما لفت انتباه كبار الفنانين والمنتجين بفضل الحس الموسيقي الفريد الذي تمتع به.
إذا ذُكر اسم بليغ حمدي، فلابد أن يتبادر إلى الذهن تعاونه مع كوكب الشرق أم كلثوم، الذي يُعَدّ علامة فارقة في مسيرته وفي تاريخ الأغنية العربية ككل. بدأ هذا التعاون بأغنية "حب إيه" عام 1960، والتي حققت نجاحاً ساحقاً، وأُعجب الجمهور بجرأة اللحن وتجدّده. واستمر التعاون ليشمل أغنيات أخرى لا تزال محفورة في ذاكرة الفن العربي، مثل "أنساك" و**"كل ليلة وكل يوم"**، وهي أعمال أكّدت عبقرية بليغ حمدي وجرأته الموسيقية التي استطاعت أن تنسجم تماماً مع صوت أم كلثوم القوي والمتفرّد.
شكّل بليغ حمدي مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ثنائياً فنياً استثنائياً، إذ لحّن له العديد من الأغاني العاطفية والوطنية التي لاتزال تنبض في وجدان المستمعين حتى اليوم. من أشهر هذه الأعمال أغنيات مثل "جانا الهوى" و"سواح" التي تميّزت بإيقاعاتها المرحة وشجونها العاطفية الرقيقة. كما لحّن له أغنيات وطنية مثل "عدى النهار" التي عكست قدرة بليغ على ترجمة معاني النصوص الشعرية إلى ألحان مُلهِمة تعبّر عن روح المرحلة.
لم يكن بليغ حمدي مجرد ملحن تقليدي، بل شكّل حالة خاصة في الموسيقى العربية بحكم قدرته على دمج المقامات الشرقية الأصيلة مع لمسات حداثية وإيقاعات متنوعة. تميّزت ألحانه بالعاطفة والدفء، فضلاً عن ميله إلى استخدام الآلات الشرقية كالعود والقانون والناي بشكل مبدع ومتوازن. وكان لتلك الرؤية الفنية دور كبير في إحداث نقلة نوعية في الأغنية العربية، حيث أصبحت أكثر تنوعاً وتعبيراً عن نبض الشارع العربي وجمهوره المتعطش للتجديد.
إلى جانب أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، تعاون بليغ حمدي مع مجموعة كبيرة من رموز الغناء في العالم العربي، مثل وردة الجزائرية التي رافقها في مسيرتها وقدّم لها أجمل الألحان الرومانسية والوطنية، وكذلك شادية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وغيرهن. وفي كل مرة كان يقدّم لوناً فنياً يليق بصوت الفنان ويتناسب مع شخصيته وأسلوبه، الأمر الذي جعله ملحناً متعدد الجوانب والثقافات الموسيقية.
واجه بليغ حمدي خلال حياته بعض الأزمات الشخصية والمهنية التي أثّرت على استقراره، لكنّه ظل متشبثاً بحبه للموسيقى، إذ كانت الملاذ الأول والأخير له. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، لم يتخلَّ أبداً عن الابتكار والتجديد، فاستمر في إنتاج أعمال خالدة حتى نهاية مسيرته.
يُعَدّ الإرث الفني الذي تركه بليغ حمدي ثروة موسيقية لا تقدَّر بثمن، إذ رحل عن عالمنا في 12 سبتمبر 1993، تاركاً وراءه رصيداً ضخماً من الألحان الخالدة التي ما زالت حيّة في قلوب المستمعين حتى اليوم. وأصبح يُنظر إليه باعتباره أحد أبرز رواد التلحين في الموسيقى العربية المعاصرة، وأحد أكثر الملحنين تأثيراً في الأجيال اللاحقة.